معهد الخوئي | Al-Khoei Institute

معهد الخوئي | Al-Khoei Institute
  • الإمام الخوئي
  • المكتبة المرئية
  • المكتبة الصوتية
  • المكتبة
  • الاستفتاءات

الديمقراطية و حقوق الانسان في فقه الاسلامي

  • ٧٩٠٧
  •  

الديمقراطية و حقوق الإنسان في الفقه الإسلامي


 


أ/محمد علي بحر العلوم


 


بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله والصلاة على رسول الله وآله الطيبين الطاهرين.


المقدمة  


  من الصعب جدا ان نبحث عن محاكاة تجربة بشرية ايا كانت، وننقلها بحذافيرها الى مجتمعاتنا من دون ان يتم دراستها وازالة الخصوصيات العالقة بها من منطقة نشأتها والتراكمات التاريخية التي علقت بها طيلة العمل بها والظروف الخاصة التي احاطتها منذ تكونها ، وذلك لغرض الوصول الى كنهها وحقيقتها وغايتها، حتى نصل الى نقطة عامة يمكن من خلالها الالتقاء فيها مع تلك الشعوب، والاستفادة من تجربتها ، كما فعلت هي عندما نقلت منجزات الحضارة الاسلامية في القرون الماضية وصاغتها بما يتناسب مع مجتمعاتها وبنت عليها الكثير من التقدم الذي حازته .


 والديمقراطية كمفهوم ومنتج غربي نشأ منذ العصور اليونانية وترعرع في خضم المئات من السنين في الدول الاوروبية والامريكية وادخلت عليه العديد من التعديلات والصياغات وتفرعت منه الكثير من المبادئ التي تكون الاسس التي تقوم عليها الدولة الحديثة.


  خصوصا عندما نلاحظ ان الديمقراطية نشأت في بيئة تختلف ايدلوجيا وفي نظرتها الكونية عن النظرة الاسلامية  في المبدأ والمعاد ، والهدف من الخلقة وما يسعى اليه الانسان لتحقيقه، وكيفية نظرته الى عالم الدنيا،وكذلك اعتمادها على نظرية اصالة الفرد والسعي من اجل تحقيق اكبر قدر ممكن من رغباته وايجاد الظروف الملائمة لتحقيقها،  فالانسان المسلم يسعى في عمله الدنيوي الى تحصيل الكمال والقرب الالهي، وهذا بخلاف النظرة المادية التي تتحدد نظرته الى حدود عالم الدنيا ولا تتجاوزها  وبالتالي يعمل من اجل تحقيق مصالحه الدنيوية لنفسه ولمجتمعه. وهذا الاختلاف البنيوي يلقي بظلاله على كافة التشريعات والتقنينات بل على طريقة الحياة والسلوك والاخلاق ، فضلا عن العبادات ومعنى الايمان والحقوق والواجبات.


 ولكن هذا لايعني القطيعة وعدم امكان استفادة كل من الآخر، وذلك لوجود قاسم مشترك بين كل الشعوب هو في القواعد العقلية التي لا تتخلف ولاتختلف ، كما توجد السير العقلائية التي قبل الاسلام الكثير منها وشذب وهذب العديد منها ايضا ، وهذايعني امكانية التلاقي مع الحضارات وتقنينات الشعوب الاخرى ، والنظراليها نظرة الاستفادة والتجربة البناءة القابلة للتطبيق اذا ما ازلناعنها الخصوصيات البيئية والتاريخية لنعود بها الى اصلها وجذرها الاساسي .


 والديمقراطية هكذا عندما ناخذها على ماهي عليه ونريد تطبيقها او معرفة موقعها في الفقه السياسي فسوف نجد مواقف متضادة بين القبول التام والرفض المطلق ، وثالث اتخذ موقفا وسطا بينهما ففرق بين الديمقراطية كايدلوجية ، وبينها كالية لتحقيق العدالة الاجتماعية وصدق الممارسة السياسية،من خلال اعتماد الياتها كالانتخاب وتداول السلطة والتعددية السياسية وغيرها .


 


أولا: الديمقراطية والديكتاتورية


   يذكر العلامة الطباطبائي في تفسيره  بأن الانسان مستخدم بالطبع ، بمعنى انه يلجأ اذا ماترك وحاله ان يستخدم كل ما يمكنه استخدامه في طريق كماله وبقاء حياته فيتصرف في المادة بأنواع الصناعات والفنون ، وكذلك النبات والحيوان بل حتى الإنسان ، لكنه عندما وجد ان سائر أفراد الانسان يريدون منه مايريد صالحهم ورضي منهم  ان ينتفعوا منه وزان ماينتفع منهم ، فلجأ الى الاجتماع المدني والعدل الاجتماعي. .


 لكن هل نسخ ذلك الحكم الاول وتلك الطريقة الاولى من صفحة الذهن البشري تماما ام انه بقي في جذوره لم ينتزعه يظهر بين حين وآخر في صور متعددة حيث يسعى الى فرض سلطانه واستغلاله لبني نوعه ، ويكون اوضح صورة لهذا الاستغلال الديكتاتوريات التي نشأت منذ العصور الغابرة في شرق الأرض وغربها وعانت منها البشرية ما عانت، فعمدت الى الخلاص منها بشتى الطرق والوسائل ، وتاريخ البشرية حافل بالصور العديدة من الصراعات التي راح ضحيتها الملايين في سبيل الخلاص من الديكتاتوريات. والديكتاتورية تنشأ من حاكمية الفرد وجمع كافة السلطات بيده والتصرف بها تبعا لرغباته واهوائه من دون رقابة او رادع ، فيتبعه حفنة من الاتباع المستفيدين من وجوده ، وتبقى الغالبية من الشعب المرئوس مغلوبا على أمره ليس له الا الطاعة او الموت،وقد عايشنا في عصرنا الحاضر العديد من هذه الديكتاتوريات وعانينا منها الامرين فكانت النتيجة القتل والخراب والدمار والتخلف عن ركب الحضارة وانتشار الجهل والامية .


  وكانت الديمقراطية الخط المقابل للديكتاتورية من خلال طرح حكم الشعب والمشاركة الشعبية ،وليقود الشعب الحياة في كافة مناحيها التنفيذية والتشريعية وإليه يعود إضفاء الشرعية على الحاكم، وهكذا نمت الى تفريعاتها المتعددة ، وانطبعت بالاماكن التي طبقت فيها امريكا وبريطانيا وفرنسا وايطاليا  ، كما نشأت عنها العديد من التفريعات كالديمقراطية المباشرة ، والديمقراطية غير المباشرة ، والديمقراطية شبه المباشرة ، والديمقراطية التمثيلية ، والديمقراطية البرلمانية ، والديمقراطية السياسية ، والديقراطية الليبرالية ، والديمقراطية المسيحية، بل قد نجد بينها تفاوت فاحش ، كالفارق بين الديمقراطية الليبرالية وديمقراطية ماركس.  


والمجتمع الاسلامي لم يكن اجتماعه السياسي يسير على وتيرة واحدة ، فبعد عهد الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم بدأت مرحلة الخلافة الراشدة فاختير الخليفة بطرق مختلفة بالترشيح بين عدة افراد ثم اخذ البيعة من الاخرين بأي طريقة كانت ، ثم بالتعيين ، او بالاختيار بين عدد محدود ، ولم يكن هناك اختيار شعبي إلا في اختيار علي بن ابي طالب ، وابنه الحسن عليهما السلام ، ثم انتقلت الخلافة الى بني امية بالعنف والحيلة لتكون ملكا وراثيا ، حتى آلت الى بني العباس بالغلبة على الامويين لتكون بينهم ايضا ملكا وراثيا، ثم انتقلت الى الخلافة العثمانية لتكون ايضا وراثية حتى جاء عهد الاستعمار وتلاه عهد استقلال الدول الاسلامية لتخوض تجارب عدة .


 والامر البارز منذ تولي بني امية الرئاسة هو التفرد في السلطة والحاكمية الفردية التي هي الاساس في نشأة الديكتاتورية . وفي خضم تلك الفترات كانت الثورات والمعارك الطاحنة هنا وهناك، وكان سيل الشهداء من اجل الحرية واخذ الحقوق جاريا طوال تلك العهود.


  ولم تتعرف الدول العربية والاسلامية بشكل عام على الطريق الذي ينهي حالة الديكتاتورية بشكل مطلق، بل كلما سلكت طريقا بظن ان فيه الخلاص تجد انه يوصلها الى نفس النتيجة بنحو آخر.وحان الدور لكي تطبق الديمقراطية بضغط من   الدول الكبرى التي تريد لهذا المفهوم ان يرى النور في بلادنا، ولكن لا يمكن تطبيق الديمقراطية من دون ان تكون هناك ارضية صالحة لها تتبنى اسسها ومتبنياتها وقد لا تتوافق مع تركييبة المجتمعات الشرقية بشكل عام ولا مع اعتقاداتهم ولذا نراها تتعثر هنا وهناك .


ولذا نرى انه من الافضل ان نرى كيف يمكن ان يقطع دابر التسلط والتفرد في السلطة وكيف يمكن ان يقضى على الديكتاتورية، وهل يمكن للفقه الاسلامي ان يعمل آليات الديمقراطية ويزيد عليها او يهذب بعضها ….


 ثانيا : استعراض لنظريات الفقه الامامي 


     اختصارا للوقت سوف اقتصر على ما ورد في الففه الامامي من نظريات التي تبين كيفية تكون السلطة الحاكمة ، ولمن تكون الحاكمية ، وكيف يمكن المنع من التسلط والديكتاتورية وما هو دور الشعب في ذلك كله.


 بالطبع تعتبر نظرية النص والتعيين هي من السمات البارزة في النظرية الامامية وذلك لانهم يرون بالادلة المختلفة ان الحاكمية تكون للإنسان الكامل الذي يكون هو الحجة على الخلق والمتمثل بشخص النبي او الامام وبالتالي في حال وجوده يكون الاصطفاء الالهي والعصمة عن الخطأ هي الضمان لعدم التسلط وعدم الظلم وتطبيق العدالة الكاملة ، لكن لم تتح لهذه الحكومة ان تطبق إلا في فترات قصيرة من حياة الرسول الاعظم (ص) وخلافة الامام علي وابنه الحسن عليهما السلام، وفي هذه الفترات كانت هي الدولة الدينية والتي يستمد الحاكم شرعيته من السماء، ولكنها تختلف عن الدول الدينية التي كانت في اوروبا من جهة انها محصورة في عدد معين وفئة معينة فقط وهو الائمة الاثنى عشر ، قد توفرت فيها من الصفات الكمالية ما هو  حافل في كتب التاريخ والرواية . ثم كان عصر الغيبة الكبرى والذي بدأ من منتصف القرن الثالث الهجري تقريبا وهو عصر يمتاز بوجود الامام المعصوم ولكن عدم ممارسة دوره في الرئاسة الدنيوية وعدم ظهوره …


  وعندما نطالع التاريخ وكيفية تعامل الفقهاء مع السلطة الزمنية نرى انهم لم يتعاملوا إلا مع دول اتصفت بالتشيع، وفي ايران بالخصوص،  ولم يتولوا زمام الامور وإنما كان لهم دور القضاء كأقصى حد مع بعض الصلاحيات الخاصة، والقرب من الدولة ونصيحتها ، فلا نستطيع ان نقول ببروز دور ونظرية خاصة في تلك الفترات الزمنية حتى كان القرن العشرين ليكون نقطة الانطلاق في نشأة النظريات المختلفة لدى فقهاء الامامية ويمارسوا دورا فعليا في تسيير الحياة السياسية على درجات متفاوتة هنا وهناك .


  وقد يكون النقاش الدائر في الفقه السياسي الشيعي حول من يعطي السلطة للحاكم الفقيه ام الأمة أم كليهما هو السؤال الاهم الذي يطغى على كافة جوانب المسألة، ولكنا لسنا بصدد الاجابة مباشرة عن هذا التساؤل بقدر ما نريد بيان دور الامة في كل هذه النظريات ومدى ضمانة المنع من تحول الحاكم الى ديكتاتور.


1ـ نظرية الميرزا النائيني : وابتدأنا بها لأنها اول ما كتب عن الفقه السياسي بنحو من التفصيل من قبل احد ابرز الفقهاء في النجف الاشرف، لمعالجة الازمة الدستورية التي نشبت في ايران والتي عرفت بالصراع بين المشروطة والمستبدة ، والتي تدور حول كيفية تقييد سلطات الملك (الشاه)، وقد نشراراءه في كتابه المعروف " تنبيه الأمة وتنزيه الملة في لزوم مشروطية الدولة المنتخبة لتقليل الظلم على أفراد الأمة وترقية المجتمع " الصادر سنة 1929م ، اذ يشير في كتابه الى: أ ـ  ضرورة الحكومة التي تقوم على ادارةا لامور السياسية العامة وتنظيم المدن وحفظ الحدود وتجميع الضرائب وصرفها في المصالح العامة وهي مهمة كل حاكم واهمالها يؤدي الى اضطراب النظام العام الذي لا يسمح الشارع المقدس به .


ب ـ اعتماد مبدأ الشورى في الامور غير المنصوص عليها في الشريعة ـ أي الامور التي عرف حكمها بدقة ووضح وهي غير قابلة للتغيير مع اختلاف الزمان والمكان ـ وان معظم الامور السياسية هي من غير المنصوص عليها 


ج ـ عدم ثبوت النيابة العامة للفقهاء في جميع المناصب فإن حق الفقهاء في النيابة عن الإمام المهدي عليه السلام في عصر الغيبة في الأمورالحسبية  , وإن ثبوت نيابة الفقهاء العامة في إقامة النظام العام وحفظ الدولة الإسلامية من أهم الامورالحسبية ومن الأمور القطعية في مذهب الامامية ولا يجب ان يتصدى المجتهد بنفسه ويكفي اذنه لمنتخبي الأمة في صحة وشرعية عملهم ، ومن اجل مراعاة غاية الاحتياط لوحظ اشتمال نواب الشعب على عدد من المجتهدين لتصحيح وامضاء الاراء الصادرة من المجلس.


د ـ يجب تدوين الدستور الشامل لحقوق الشعب العامة وحريته وواجبات وصلاحيات الحكام....


هـ  الحرية والمساواة من مبادئ الحكومة المشروطة..


2ـ نظرية ولاية الفقيه : وهي التي قامت على اساسها الجمهورية الاسلامية الايرانية ، وطبقها الإمام السيد روح الله الخميني ، فإنها تجد اصولها في كلمات الفقهاء الذين عاشوا في عصر الدولة الصفوية والقاجارية كالمحقق الكركي(ت 940هـ) ، والمقدس الاردبيلي (ت 993هـ ) ، والمحقق النراقي( ت 1248هـ ) الذي يعتبر اول من صرح  بمثل هذه الولاية للفقيه حيث يجعل قضية ادارة الشئون الدنيوية للناس من واجبات الفقهاء في كتابه عوائد الايام، لكن السيد الخميني بلورها وطبقها بل كان من رأيه ضرورة سعي الفقيه وتهيئة الظروف المناسبة لممارسة هذه السلطة واعداد مقدماتها، وبالفعل تم له ذلك في تأسيس الجمهورية الاسلامية في ايران.


إن مسألة تعيين الدور المناط بالفقيه في عصر الغيبة هو النقطة الخلافية بين النظريات التي اعتمدها فقهاء الامامية فقد استلهم اصحاب هذه النظرية من بعض الروايات كمقبولة عمر بن حنظلة وغيرها ان للفقيه هذه الولاية العامة في قبالهم اصر بعض الفقهاء على ان يكون دور الفقيه محصورا في القضاء والفتوى، وعلى كل حال فإن هذه النظرية تعتمد على اساس ان مشروعية الفقيه وولايته تكون من عند الله وليست من عند الناس وتبقى ولايته ثابتة إلا ان يفقد شروط الفقه والعدالة ،ويكون الفقيه مصدر شرعية النظام وسائر المؤسسات الحكومية ومن بينها القوى الثلاث،  ولا يكون للانتخاب وراي الناس دور إلا في المستويات الدنيا اذا رأى الفقيه الصلاح في ذلك ، وبالفعل نرى انهم قد ادخلوا في ضمن النظام عنصر الانتخاب لرئيس الجمهورية والسلطة التشريعة الممثلة بمجلس الشورى إلا انهما ينالان شرعيتهما من امضاء الولي الفقيه ، وفي هذه النظرية يرى ان الديمقراطية أمر مرفوض وهو زي غربي لا يصلح للمجتمع الاسلامي كما ينقل عن احد اركان السلطة في ايران " ان الشورى والانتخابات والاختيار على اساس الانتخاب من البدع التي جاءتنا من الغرب ،ومن ثقافة المخالفين للشيعة في الولاية ، ولاية امير المؤمنين (ع)ولم يكن له عين ولا أثر في الإسلام."


 وقد تعرضت هذه النظرية لبعض التطوير على يد الشيخ المنتظري عندما حاول ان يجمع بين حاكمية الله ، وسيادة الامة من خلال التفصيل بين ان يتحقق النصب المباشر من قبل الله كما في النبي والإمام المعصوم، وبين الرجوع الى الناس في انتخاب من يرونه اهلا لكن لا مطلقا بل لمن وجد الشرائط والصفات المعتبرة ، نعم لو ترك الناس العمل بهذه الفريضة المهمة ولم يسعوا لانتخاب الحاكم الصالح امكن القول بوجوب تصدي الفقهاء الواجدين للشرائط للأمور المعطلة من باب الحسبة


  وقد نجد تطورا اخر لدى بعض المعاصرين وهو شيخنا السند من جهة اعطاء دور اكثر فاعلية للأمة، وبيان عدم اغفالها في هذه النظرية فالحاكمية والولاية لله ومنها تصل للفقيه إلا انه يعود للأمة أولا : الانتخاب " فالحاكمية الالهية بمراتبها المتسلسلة لا تعدم الارادة الشعبية والاختيار البشري، بل هي ترشده وتهديه الى السبيل السوي والصراط القويم" " فالانتخاب قدرة تحكم من الناخبين في المنتخب إلا ان اللازم عليهم مراعاة الأصول المقررة سلفا من قبل الشارع والعقل في المنتخب الذي يسانده بالقدرة ويعزى إليه مقاليد الامور ، فإطار الحاكمية وإنكان محددا بنحو الخصوص او العموم في النيابة إلا ان ذلك ليس بنحوالإلجاء القسري التكويني ، بل حاله حال بقية التكاليف المقررة من قبل الشرع في الابواب الاخرى التي هي في حين كونها تكاليف تقنينية من قبل الشرع إلا أنه لا يلجئ المكلفين اليها بنحو القسر" فالانتخاب ليس توكيلا من الأمة للحاكم ولا تولية منهم اليه بل يرجع إلى الكاشفية والاحراز وتشخيص المصداق " . ثانيا : مشاركة اهل الخبرة وحجية قولهم وضرورة رجوع الفقيه اليهم،  وحجية اهل الخبرة مما قامت عليه السيرة العقلائية واعتبر من المسلمات الفقهية ، ثالثا : مراقبة الامة لكل نظام الحكم طبقا لللاليات المتناسبة مع كل زمان ومكان ، وهذه تستمدها الامة من عموم الامر بالمعروف والنهي عن المنكر " والمؤمنون بعضهم اولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر"التوبة:71، وهذا يعطي عموم المسئولية للأمة في مراقبة المعروف وعدم حصول ا لمنكر في أي مفصل من مفاصل النظام.


  نلاحظ من خلال هذا السرد لهذه النظرية كيف انها تطورت من اجل ان تبتعد عن صفة الفردية وان تعطي للأمة دورا اكبر في عملية الانتخاب إلا انها ظلت ضمن مواصفات وشرائط خاصة ، وهنا ايضا نسجل نقطة جديرة بالملاحظة ان مثل هذا النظام لايمكن ان يتم إلا في بلد يكون الشعب فيه من لون واحد ومذهب واحد ، وإلا فمع تعدد المذاهب والاديان والأعراق لا يمكن ان يطبق هذا القانون وجعل مثل هذا الدور للفقيه.


3ـ ولاية الأمة على نفسها : وقد نادى بها الشيخ محمد مهدي شمس الدين( ت 2001م)،ويظهر من تسميتها انها في مقابل ولاية الفقيه حيث يسحب من الفقيه اية ولاية وحاكمية على الشئون الادارية ويقصرها على الفتوى والقضاء، وتتلخص نظريته : أ ـ أن الأحكام الالهية الثابة أي الشريعة أحكام نهائية ولا يجوزتجاوزها تحت أي ظروف ، ومن الاحكام الثابتة الاحكام المربوطة بنظام العبادات ونظام العائلة والمسائل الجنسية (المتعلقة بجسم الانسان وجسم الآخرين) ومسائل الربا ، ولا أحكام ثابتة في الشريعة الاسلامية في مايخص النظام السياسي والحكومة... ب ـ ان بيان الاحكام الثابتة الشرعية من مسئولية الفقهاء وقد عين الفقهاء في زمان غيبة المعصوم بمنصب القضاء اما اكثر من ذلك فلم يثبت أي دور خاص للفقهاء في مجال السلطة السياسية أوا لحاكمية، ولم تثبت الولاية العامة للفقهاء . ج ـ في عصر غيبة المعصوم تملك الامة الولاية على مقدراتها في اطار الشريعة الإسلامية والإنسان مسئول عن نفسه والمجتمع ولي نفسه، وذلك بسبب أن الأمة حاكمة على مصيرها ومقدراتها وتنتخب شكل النظام السياسي على اساس من الشورى في جميع المراحل ، ولا يعتبر الفقه شرطا لرئيس الدولة الاسلامية المنتخب . د ـ يجب ان تنسجم الدولة مع طبيعة المجتمع الذي تنطلق منه ، وأن تمتزج في أعماق الأمة وعقول الناس ، وان تستفيد من التجربة الانسانية.،وليس خفيا ان الشيخ شمس الدين لم يكمل نظريته لكنها خرجت عن الإطار الفقهي المتعارف ولذا اعتبرت فتحا جديدا في الفقه السياسي ، حيث انها تتناسب مع ما تطرحه الدول الديمقراطية مع ملاحظة الخصوصية الاسلامية .


ج ـ التفرقة بين الانتماء للأمة والانتماء للدولة حيث يدخل في تكون الثاني عنصر الأرض ولكل واحد من الانتمائين حقوق ومسئوليات للمسلم وعليه ، ففي حالة تطابق مفهوم الأمة ومفهوم الدولة في الصدق الخارجي بحث تنتظر الدولة الاسلامية جميع الأمة الاسلامية على جميع ارض (دار الاسلام)تتكامل مسؤوليات وحقوق الانتمائين ، واما في حالة عدم التطابق فحيث أن حقوق ومسئوليات الانتماء الى الامة محددة في الشريعة والفقه، دون حقوق ومسئوليات الانتماء إلى الدولة ، فإن الضرورة التنظيمية في هذه الحالة تقتضي  إلى (تدبير )يحدد جهة الانتماء للمكلف ليتمكن من القيام بمسئولياته اتجاه الدولة والمجتمع، وليأخذ حقوقه وهذا التدبير هو الجنسية


4ـ نظرة لما يجري في العراق


  يمتاز العراق بميزة اساسية في مجمل تغيراته السياسية طيلة العقود الماضية وذلك لوجود المرجعية الدينية العليا للشيعة فيه ، وبأنه ذو اغلبية شيعية وبالتالي يكون تحرك الشيعة السياسي تحت نظر المرجعية وبارشاداتها، والتاريخ شاهد على هذه التبعية خلال القرن المنصرم وكيف كان رجوع الناس الى المرجعية لبيان شرعية تحركها السياسي ضد الانظمة الحاكمة آنذاك، وبالتالي يمثل الحراك السياسي في الفترة التي اعقبت سقوط الصنم الطاغية نقطة تحول في الفكر السياسي الشيعي وذلك لأن الاسلاميين الشيعة شاركوا في بناء هذه الدولة الجديدة بمباركة من المرجعية الدينية وهذا يعطي مسوغا شرعيا وتأصيليا جديدا في كيفية الحكم في مجتمع مختلط ويكون الدفع من اجل انشاء دولة مدنية ،ويمكن ان نسجل النقاط التالية ضمن الحراك الذي شهده العراق في هذه الفترة:


أ ـ ان تشكيل الحكومة أمر ضروري تقتضيه الفطرة البشرية لما يحكم به العقل من ضرورة الاجتماع والتعاون والعمل على اقامة العدل وحفظ المصالح العامة الاجتماعية ،وحفظ الأمن وتوفير الخدمات وهذا كله لا يتحقق إلا من خلال حكومة قوية قادرة على ذلك.


 ب ـ بما ان المجتمع مختلط ولا تحكمه رؤية مذهبية واحدة ، ولا تكفي الاغلببية لسيادة رأيها بل لابد من تحقيق التوافق العام بين كافة المكونات الاساسية من عرب وكرد وتركمان ، ومن شيعة وسنة ومسيحيين وصابئة وغيرهم من الأقليات .وهذا التوافق يتم من خلال كتابة دستور يمثل القانون الأم والحد الادنى من الاتفاق بين هذه المكونات والتي على اساسه يتم التعامل بينهم.


  ومن هنا كان السعي الحثيث على كتابة الدستور ليمثل الوثيقة الاساسية التي  التي يعود اليها الجميع ويحتكمون اليها، وتحدد صلاحيات مختلف السلطات ، وكيفية تداول السلطة ، والحفاظ على حقوق الافراد ويجب ان تكون كتابته بأيد عراقية وليس مفروضا عليهم لأنه سوف يفقد قيمته حينئذ ، وكذلك يجب ان يتضمن الحفاظ على المقدس الاسلامي وعدم جواز تشريع يخالف الاسلام، لأن المسلم لا يمكن ان يوافق على حكم يخالف الثوابت العامة للأسلام


ج ـ تجاوزت هذه النظرية البحث عن شرعية الحاكم الى طرح مسألة عدم جوازمخالفة القانون لحرمة مخالفة النظام العام وحرمة الاخلال بالنظام ، وما يقضي به العقل من قبح الفوضى والهرج والمرج والفتتنة ، وبالتالي يجب على الجميع ان يتقيد بالقانون ،ومن هنا كان التاكيد المستمر في الاستفتاءات على لزوم الالتزام بالقانون بالنسبة للموظفين وعدم جواز مخالفته والتصرف في الاموال العامة بما يخالف الالتزامات الملقاة على عاتق الموظف.


 د ـ ومن أجل تحقيق هذه الاهداف لابد من مشاركة الشعب في كتابة الدستور وان يختار من يقوم بتنفيذ القانون والسهر عليه، فكان الحث على المشاركة في الانتخابات ، بل الدفع من اجل ان تضم الهيئة التشريعية اناسا مؤهلين في مجالات الفقه والقانون لكي لا يصدر إلى ما يخالف الثوابت الاسلامية.


هـ ـ نرى هنا ان الفقيه نأى بنفسه عن المشاركة في السلطة التنفيذية بل وحتى التشريعية بل اكتفى بعنصر المراقبة الشديدة والارشاد والنصح الذي يصل إلى درجة الالزام في بعض حالاته، انطلاقا من موقع الأمة لا الحاكم ، حيث امتلك هذا التخويل الطبيعي  .


و ـ لقد جعل في الدستور مادة هي سر قوة الدستور العراقي والذي يعتبر بذلك بذ رة جديدة في عالم التقنين تتمثل بالمادة الاولى التي تنص على أن الإسلام دين الدولة الرسمي وهو مصدر اساس للتشريع : أ ـ ولا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الاسلام. ب ـ ولا يجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية.


 والاول يؤمن شيئا من الشرعية والثاني يمنع من التسلط والديكتاتورية،ويحفظ المشاركة الشعبية الدائمة في العمل السياسي.


ز ـ التأكيد على مبدأ المواطنة واختيار الكفاءات الوطنية في الاعمال الادارية والتنفيذية وهذا يظهر في العديد من البيانات التي اصدرتها المرجعية الدينية . 


 


نلاحظ من خلال هذا الاستعراض مدى انسجام النظريات مع الاليات التي تمنع من الاستبداد والديكتاتورية ومدى اختلافها في المساحة التي تعطى للشعب للمشاركة في العملية السياسية،وبالطبع تختلف النظريات في امكانية تطبيقها بحسب اختلاف الشعوب واعتقاداتها، نعم تبقى المشاركة الشعبية أمرا حديث التاسيس في مناطقنا وتبقى هذه الاليات قابلة للتطوير، ما دام باب الاجتهاد مفتوحا .